تاريخ القيروان
يعود تاريخ القيروان إلى عام 50هـ / 670 م، عندما قام بإنشائها عقبة بن نافع. وكان هدفه من هذا البناء أن يستقر بها المسلمون، إذ كان يخشى إن رجع المسلمون عن أهل إفريقية أن يعودوا إلى دينهم. وقد اختير موقعها على أساس حاجات إستراتيجية واضحة. فقد ذكر عقبة بن نافع أصحابه بعد الفتوح في المغرب: "إن أهل هذه البلاد قوم لا خلاق لهم إذا عضهم السيف أسلموا، وإذا رجع المسلمون عنهم عادوا إلى عاداتهم ودينهم ولست أرى نزول المسلمين بين أظهرهم رأيا وقد رأيت أن أبني ها هنا مدينة يسكنها المسلمون فاستصوبوا رأيه". وقد اختار لها موضعا بعيدا عن البصر في وسط البلاد ولئلا تمر عليها مراكب الروم فتهلكها.
لعبت مدينة القيروان دورا رئيسيا في القرون الإسلامية الأولى، فكانت العاصمة السياسية للمغرب الإسلامي ومركز الثقل فيه منذ ابتداء الفتح إلى آخر دولة الأمويين بدمشق . وعندما تأسست الخلافة العباسية ببغداد رأت فيها عاصمة العباسيين خير مساند لها لما أصبح يهدد الدولة الناشئة من خطر الانقسام والتفكك. ومع ظهور عدة دول مناوئة للعاصمة العباسية في المغرب الإسلامي فقد نشأت دولة الأمويين بالأندلس، ونشأت الدولة الرستمية من الخوارج في الجزائر، ونشأت الدولة الإدريسية العلوية في المغرب الأقصى.
وكانت كل دولة من تلك الدول تحمل عداوة لبني العباس خاصة الدولة الإدريسية الشيعية التي تعتبرها بغداد أكبر خطر يهددها. لهذا كله رأى هارون الرشيد أن يتخذ سدا منيعا يحول دون تسرب الخطر الشيعي. ولم ير إلا عاصمة إفريقية قادرة على ذلك، فأعطى لإبراهيم بن الأغلب الاستقلال في النفوذ وتسلسل الإمارة في نسله.
وقامت دولة الأغالبة (184-296هـ / 800 -909م) كوحدة مستقلة ومداف عة عن الخلافة. وقد كانت دولة الأغالبة هذا الدرع المنيع أيام استقرارها، ونجحت في ضم صقلية إلى ملكها عام 264هـ / 878 م، وقام أمراؤها الأوائل بأعمال بنائية ضخمة في القيروان ذاتها ومنها توسيع الجامع في القيروان، وتوسيع الجامع في تونس، كما عمل الأغالبة على الاهتمام بالزراعة والري في المنطقة، وأقاموا الفسقية المشهورة.
وقد استغل الأمراء الأغالبة تلك المكانة واتخذوها سلاحا يهددون به عاصمة بغداد كلما هم خليفة من خلفائها بالتقليل من شأن الأمراء الأغالبة أو انتقاص سيادتهم. وهذا ما فعله زيادة الله بن الأغلب مع الخليفة المأمون العباسي. فقد أراد هذا الأخير إلحاق القيراون بولاية مصر، وطلب من زيادة الله أن يدعو لعبد الله بن طاهر بن الحسين والي المأمون على مصر فأدخل زيادة الله رسول المأمون إليه، وقال له: إن الخليفة يأمرني بالدعاء لعبد خزاعة. هذا لا يكون أبدا ثم مد يده إلى كيس بجنبه فيه ألف دينار ودفعه للرسول. وكان في الكيس دنانير مضروبة باسم الأدارسة في المغرب ؛ ففهم المأمون مقصد الأمير الأغلبي فكف عن محاولته ولم يعد إليها.
وبسبب هذه المكانة فقد عمل على التقرب منها أكبر ملك في أوروبا إذ بعث الإمبراطور شارلمان بسفرائه إلى إبراهيم بن الأغلب فقابلهم في دار الإمارة بالعباسية في أبهة عجيبة بالرغم من الصلات الودية التي كانت بين هذا الإمبراطور والخليفة العباسي هارون الرشيد.
وفي عهد ولاية إبراهيم بن أحمد بن محمد بن الأغلب (261 - 289هـ / 875 -902م) بدأت الفتن تدب بين أمراء الأغالبة. وكان إبراهيم بن أحمد سفاحا لم تسلم منه عامة الناس ولا أقرب الناس إليه وكان غدره بسبعمائة من أهل بلزمة سنة 280هـ / 894 م سببا من أسباب سقوط دولة بني الأغلب. وفي نفس السنة شقت عصا الطاعة في وجه هذا الأمير مدن تونس، وباجة، وقمودة، وغيرها. وعمت الفوضى أرجاء البلاد بينما الخطر العبيدي الشيعي يزداد يوما بعد يوم. ولما أيقن إبراهيم بن أحمد بخطر بني عبيد حاول سنة 289هـ /902 م تغيير سياسته، فرفع المظالم، واستمال الفقهاء، وبذل الأموال للشعب ولكن بدون جدوى. وفي عهد حفيده زيادة الله ازداد خوف بغداد واشتد جزعها من الزحف العبيدي فبعث الخليفة العباسي المكتفي بالله يحث أهل إفريقية على نصرة زيادة الله فلم يكن لذلك صدى في النفوس وبذل زيادة الله الأموال بلا حساب ولكن دون جدوى. فلم يمض على هذا الحادث سوى ثلاث سنوات حتى جاءت معركة الأربس الحاسمة سنة 296هـ / 909 م وفر على إثرها زيادة الله إلى المشرق ومعه وجوه رجاله وفتيانه وعبيده. وباستيلاء العبيديين على القيروان جمعوا كل المغرب تحت سيطرتهم فشجعهم ذلك على متابعة السير نحو المشرق. وأمكن لهم فيما بعد أن يستولوا على مصر والشام والحجاز. ولولا الظروف السياسية والوضع الداخلي للفاطميين لاستولوا على بغداد نفسها.
وعندما انتقل بنو عبيد إلى مصر ووصل المعز لدين الله الفاطمي القاهرة عام 362هـ / 973 م اهتموا بالقيروان واتخذوها مركزا لنائبهم في إفريقية، وعهدوا إليه بالسهر على حفظ وحدة المغرب والسيطرة عليه. واستخلف المعز الفاطمي بلكين بن زيري الصنهاجي على إفريقية، وكتب إلى العمال وولاة الأشغال بالسمع والطاعة له فأصبح أميرا على إفريقية والمغرب كله، وقام بلكين وخلفاؤه بقمع الثورات التي حصلت خاصة في المغرب في قبائل زنانة. واستمر المغرب في وحدته الصنهاجية وتبعيته إلى مصر الفاطمية إلى أن انقسم البيت الصنهاجي على نفسه فاستقل حماد الصنهاجي عن القيروان متخذا من القلعة التي بناها قاعدة لإمارته. وكان هذا الانقسام السياسي خير ممهد لظهور دولة المرابطين في المغرب الأقصى. كما كان لهذا الانقسام نتائجه الأليمة فيما بعد عندما أعلن المعز ابن باديس الصنهاجي استقلاله عن الفاطميين، فبعثوا إليه بقبائل الأعراب من الهلاليين فمزق شمل الدولة، وقضى على معالم الحضارة، وخربت القيروان، ولم تعد العاصمة السياسية القوية أو مركزا تشع منه المعارف والعلوم والآداب.
المصدر
أكثر من سبب يجعل زيارة مدينة القيروان العريقة خاصة في المناسبات الدينية ممتعة فالمدينة وأهلها يحتفلون بالأعياد والمناسبات الإسلامية، احتفالاً خاصاً في مكان وثيق الصلة بالتاريخ، ويحوي بين طياته بعض آثار عظمة الحضارة العربية الإسلامية، وكبار رموزها.
وأول ما يلاحظه زائر المدينة في المناسبات الدينية مظاهر الزينة، التي تتخذ من سور المدينة لوحة يتمازج فيها بشكل رائع وجذاب الماضي والحاضر. وسرعان ما يكتشف الزائر أن أهالي القيروان أكثر حبا للمدينة من كل زائريها، فهم سرعان ما ينطلقون في الحديث عن مدينتهم باعتزاز وفخر، يسردون عليك فصولا عظيمة من تاريخ عاصمة الأغالبة كما يسمونها.
ولا ينسى الكثير من أبناء المدينة، التي كانت أول عاصمة للإسلام في شمال إفريقيا، أن يستشهد لك بالشيخ عبد الرحمان خليف، إمام مسجد عقبة بن نافع وعلمه وورعه وفتاواه. ثم تدخل إلى أسواقها فتبهرك الحركة الكبيرة وتواضع الناس وأخلاقهم. وعندما تجالسهم تزداد انبهارا، فهم تونسيون من هذا العصر، ولكن يخيّل إليك أنك في عصر عقبة بن نافع من كثرة ما يخرج من أفواههم من معجم ديني ثري.
وأول ما يطالع المرء وهو يقبل على القيروان مآذن مساجدها العديدة، تطل عليها من جميع الأطراف. وفيها أول بيت ذكر فيه اسم الله في إفريقيا، فكانت قلعة للعلم والإيمان، انطلق منها الفاتحون لنشر الإسلام في ربوع المغرب الإسلامي الكبير، وتخرج فيها أعلام وفقهاء وأدباء وشعراء، بلغ إشعاعهم أقاصي الدنيا، عبر ما نشروه من علوم وفقه وأدب.
وفي هذه المدينة يرقد الكثير من الأعلام والشعراء من إفريقيا والأندلس والجزيرة العربية. فهنا عاش ابن رشيق القيرواني، وابن شرف، والإمام سحنون، والحصري.
وتستمد المدينة عراقتها أيضا من تاريخها، الذي شهد الكثير من الفتوحات، فمن القيروان قاد طارق بن زياد جيوشه لفتح إسبانيا، ومن القيروان انتشر الإسلام والحضارة الإسلامية في أكثر مناطق إفريقيا. أما جامع القيروان الكبير أشهر معالم المدينة فشيد عام 670 هجرية على يد الفاتح عقبة بن نافع، جاعلا من القيروان عاصمة إفريقيا العربية الإسلامية، ومدينة للعلم والفقه والأدب. واكتسب هذا الجامع شهرته كمنارة علم وثقافة، استطاعت أن تستقطب عديد العلماء والمفكرين، الذين جعلوا منها جامعة، بلغ إشعاعها أقصى العالم الإسلامي. وأصبحت إلى جانب جامع الزيتونة في تونس، والقرويين في المغرب، والأزهر في مصر، أحد أهم المنارات في بلاد الإسلام. وشهد الجامع عمليات تجميل وتحصين على امتداد تاريخه، وأصبح بذلك معلما متميزا.
وداخل هذا المعلم رباعي الأضلع تنفتح أمام الزائر العديد من البوابات، أجملها الباب الشرقي المعروف باسم باب “للّة ريحانة”، والباب الغربي وهو مبلط بالمرمر الأبيض، ويتوسطه حوض لتجميع مياه الأمطار، بغرض استعمالها لوضوء المصلين. كما توجد ثلاث ساعات شمسية تساعد على تحديد أوقات الصلاة.
وتفضي أبواب عديدة وواسعة إلى قاعة الصلاة، المقامة على أعمدة من الرخام الوردي والأسود. وتخضع تصاميم المسجد إلى مخطط دقيق، يمثل فيه الرقم 8 القاعدة الأساسية لعملية إعداد القاعة. بينما تدلت من الجناح الرئيسي تشكيلات من الثريات من البلور الصافي والكريستال، تنير المعبر المؤدي إلى المحراب، الذي زين ب162 قطعة خزف مربعة ذات رسوم وأشكال هندسية، وبجانب المحراب يوجد منبر، وهو قطعة فريدة من نوعها، صنعت كليا من خشب السنديان، المجلوب من بلاد ما بين النهرين. ويملأ زائر مسجد عقبة بن نافع إحساس غريب بالطمأنينة والسكينة والهدوء، يستمد فيه نفسا طويلا من عبق التاريخ ومن حرارة الإيمان. وبعيدا عن رائحة التاريخ والحضارة، التي تتأكد من خلال المدينة العتيقة، والأسوار التي رممت بإتقان، ومن خلال العدد الكبير من المساجد والأضرحة وغيرها من المعالم، تتميز القيروان إلى جانب ذلك بأنها مدينة فنون وصناعة تقليدية، حذقها السكان جيدا، وحافظوا على طابعها المميز، بما فيه من طرافة وأصالة. وأول غرائب هذه المدينة “السجاد القيرواني”، الذي طبقت شهرته أرجاء العالم. ويعتبر إلى جانب السجاد الإيراني من أجود أنواع السجاد وأكثرها التصاقا بالفن والنقش الإسلامي. وتنتشر محلات “السجاد” في مختلف أرجاء القيروان، التي يقبل التجار التونسيون من جهات عديدة على سجاجيدها المرصعة بكل الألوان. ومما اشتهرت به المدينة أيضا نوع من الحلويات، لا يفهم سرّ نكهته وحلاوته المميزة إلا أهالي القيروان. هذا النوع من الحلويات هو “المقروض”، ويكثر تداوله في رمضان. وليس لأي زائر للمدينة أن يصرف نظرا عن المقروض، وإلا بقي في نفسه شيء من حرما
المصدر
و قال الحصري يبكي القيروان بعد تخريبها على يد الهلاليين
أترى اللّيالي بعدما صَنَعَتْ بِنا **** تَقْضِي لـنا بتواصلٍ وتدَانِ؟
وتعيدُ أرض َ القيروانِ كعَهدهِا **** فيما مضى منْ سالفِ الأزمانِ
أمْسَتْ وقد لَعِبَ الزّمانُ بأهلِها **** وتقطعْت ﺒهم عُرى الأقرانِ
يعود تاريخ القيروان إلى عام 50هـ / 670 م، عندما قام بإنشائها عقبة بن نافع. وكان هدفه من هذا البناء أن يستقر بها المسلمون، إذ كان يخشى إن رجع المسلمون عن أهل إفريقية أن يعودوا إلى دينهم. وقد اختير موقعها على أساس حاجات إستراتيجية واضحة. فقد ذكر عقبة بن نافع أصحابه بعد الفتوح في المغرب: "إن أهل هذه البلاد قوم لا خلاق لهم إذا عضهم السيف أسلموا، وإذا رجع المسلمون عنهم عادوا إلى عاداتهم ودينهم ولست أرى نزول المسلمين بين أظهرهم رأيا وقد رأيت أن أبني ها هنا مدينة يسكنها المسلمون فاستصوبوا رأيه". وقد اختار لها موضعا بعيدا عن البصر في وسط البلاد ولئلا تمر عليها مراكب الروم فتهلكها.
لعبت مدينة القيروان دورا رئيسيا في القرون الإسلامية الأولى، فكانت العاصمة السياسية للمغرب الإسلامي ومركز الثقل فيه منذ ابتداء الفتح إلى آخر دولة الأمويين بدمشق . وعندما تأسست الخلافة العباسية ببغداد رأت فيها عاصمة العباسيين خير مساند لها لما أصبح يهدد الدولة الناشئة من خطر الانقسام والتفكك. ومع ظهور عدة دول مناوئة للعاصمة العباسية في المغرب الإسلامي فقد نشأت دولة الأمويين بالأندلس، ونشأت الدولة الرستمية من الخوارج في الجزائر، ونشأت الدولة الإدريسية العلوية في المغرب الأقصى.
وكانت كل دولة من تلك الدول تحمل عداوة لبني العباس خاصة الدولة الإدريسية الشيعية التي تعتبرها بغداد أكبر خطر يهددها. لهذا كله رأى هارون الرشيد أن يتخذ سدا منيعا يحول دون تسرب الخطر الشيعي. ولم ير إلا عاصمة إفريقية قادرة على ذلك، فأعطى لإبراهيم بن الأغلب الاستقلال في النفوذ وتسلسل الإمارة في نسله.
وقامت دولة الأغالبة (184-296هـ / 800 -909م) كوحدة مستقلة ومداف عة عن الخلافة. وقد كانت دولة الأغالبة هذا الدرع المنيع أيام استقرارها، ونجحت في ضم صقلية إلى ملكها عام 264هـ / 878 م، وقام أمراؤها الأوائل بأعمال بنائية ضخمة في القيروان ذاتها ومنها توسيع الجامع في القيروان، وتوسيع الجامع في تونس، كما عمل الأغالبة على الاهتمام بالزراعة والري في المنطقة، وأقاموا الفسقية المشهورة.
وقد استغل الأمراء الأغالبة تلك المكانة واتخذوها سلاحا يهددون به عاصمة بغداد كلما هم خليفة من خلفائها بالتقليل من شأن الأمراء الأغالبة أو انتقاص سيادتهم. وهذا ما فعله زيادة الله بن الأغلب مع الخليفة المأمون العباسي. فقد أراد هذا الأخير إلحاق القيراون بولاية مصر، وطلب من زيادة الله أن يدعو لعبد الله بن طاهر بن الحسين والي المأمون على مصر فأدخل زيادة الله رسول المأمون إليه، وقال له: إن الخليفة يأمرني بالدعاء لعبد خزاعة. هذا لا يكون أبدا ثم مد يده إلى كيس بجنبه فيه ألف دينار ودفعه للرسول. وكان في الكيس دنانير مضروبة باسم الأدارسة في المغرب ؛ ففهم المأمون مقصد الأمير الأغلبي فكف عن محاولته ولم يعد إليها.
وبسبب هذه المكانة فقد عمل على التقرب منها أكبر ملك في أوروبا إذ بعث الإمبراطور شارلمان بسفرائه إلى إبراهيم بن الأغلب فقابلهم في دار الإمارة بالعباسية في أبهة عجيبة بالرغم من الصلات الودية التي كانت بين هذا الإمبراطور والخليفة العباسي هارون الرشيد.
وفي عهد ولاية إبراهيم بن أحمد بن محمد بن الأغلب (261 - 289هـ / 875 -902م) بدأت الفتن تدب بين أمراء الأغالبة. وكان إبراهيم بن أحمد سفاحا لم تسلم منه عامة الناس ولا أقرب الناس إليه وكان غدره بسبعمائة من أهل بلزمة سنة 280هـ / 894 م سببا من أسباب سقوط دولة بني الأغلب. وفي نفس السنة شقت عصا الطاعة في وجه هذا الأمير مدن تونس، وباجة، وقمودة، وغيرها. وعمت الفوضى أرجاء البلاد بينما الخطر العبيدي الشيعي يزداد يوما بعد يوم. ولما أيقن إبراهيم بن أحمد بخطر بني عبيد حاول سنة 289هـ /902 م تغيير سياسته، فرفع المظالم، واستمال الفقهاء، وبذل الأموال للشعب ولكن بدون جدوى. وفي عهد حفيده زيادة الله ازداد خوف بغداد واشتد جزعها من الزحف العبيدي فبعث الخليفة العباسي المكتفي بالله يحث أهل إفريقية على نصرة زيادة الله فلم يكن لذلك صدى في النفوس وبذل زيادة الله الأموال بلا حساب ولكن دون جدوى. فلم يمض على هذا الحادث سوى ثلاث سنوات حتى جاءت معركة الأربس الحاسمة سنة 296هـ / 909 م وفر على إثرها زيادة الله إلى المشرق ومعه وجوه رجاله وفتيانه وعبيده. وباستيلاء العبيديين على القيروان جمعوا كل المغرب تحت سيطرتهم فشجعهم ذلك على متابعة السير نحو المشرق. وأمكن لهم فيما بعد أن يستولوا على مصر والشام والحجاز. ولولا الظروف السياسية والوضع الداخلي للفاطميين لاستولوا على بغداد نفسها.
وعندما انتقل بنو عبيد إلى مصر ووصل المعز لدين الله الفاطمي القاهرة عام 362هـ / 973 م اهتموا بالقيروان واتخذوها مركزا لنائبهم في إفريقية، وعهدوا إليه بالسهر على حفظ وحدة المغرب والسيطرة عليه. واستخلف المعز الفاطمي بلكين بن زيري الصنهاجي على إفريقية، وكتب إلى العمال وولاة الأشغال بالسمع والطاعة له فأصبح أميرا على إفريقية والمغرب كله، وقام بلكين وخلفاؤه بقمع الثورات التي حصلت خاصة في المغرب في قبائل زنانة. واستمر المغرب في وحدته الصنهاجية وتبعيته إلى مصر الفاطمية إلى أن انقسم البيت الصنهاجي على نفسه فاستقل حماد الصنهاجي عن القيروان متخذا من القلعة التي بناها قاعدة لإمارته. وكان هذا الانقسام السياسي خير ممهد لظهور دولة المرابطين في المغرب الأقصى. كما كان لهذا الانقسام نتائجه الأليمة فيما بعد عندما أعلن المعز ابن باديس الصنهاجي استقلاله عن الفاطميين، فبعثوا إليه بقبائل الأعراب من الهلاليين فمزق شمل الدولة، وقضى على معالم الحضارة، وخربت القيروان، ولم تعد العاصمة السياسية القوية أو مركزا تشع منه المعارف والعلوم والآداب.
المصدر
انقر على هذا شريط لعرض الصورة الكاملة. الحجم الاصلي للصورة هو 1024x768 |
أكثر من سبب يجعل زيارة مدينة القيروان العريقة خاصة في المناسبات الدينية ممتعة فالمدينة وأهلها يحتفلون بالأعياد والمناسبات الإسلامية، احتفالاً خاصاً في مكان وثيق الصلة بالتاريخ، ويحوي بين طياته بعض آثار عظمة الحضارة العربية الإسلامية، وكبار رموزها.
وأول ما يلاحظه زائر المدينة في المناسبات الدينية مظاهر الزينة، التي تتخذ من سور المدينة لوحة يتمازج فيها بشكل رائع وجذاب الماضي والحاضر. وسرعان ما يكتشف الزائر أن أهالي القيروان أكثر حبا للمدينة من كل زائريها، فهم سرعان ما ينطلقون في الحديث عن مدينتهم باعتزاز وفخر، يسردون عليك فصولا عظيمة من تاريخ عاصمة الأغالبة كما يسمونها.
ولا ينسى الكثير من أبناء المدينة، التي كانت أول عاصمة للإسلام في شمال إفريقيا، أن يستشهد لك بالشيخ عبد الرحمان خليف، إمام مسجد عقبة بن نافع وعلمه وورعه وفتاواه. ثم تدخل إلى أسواقها فتبهرك الحركة الكبيرة وتواضع الناس وأخلاقهم. وعندما تجالسهم تزداد انبهارا، فهم تونسيون من هذا العصر، ولكن يخيّل إليك أنك في عصر عقبة بن نافع من كثرة ما يخرج من أفواههم من معجم ديني ثري.
وأول ما يطالع المرء وهو يقبل على القيروان مآذن مساجدها العديدة، تطل عليها من جميع الأطراف. وفيها أول بيت ذكر فيه اسم الله في إفريقيا، فكانت قلعة للعلم والإيمان، انطلق منها الفاتحون لنشر الإسلام في ربوع المغرب الإسلامي الكبير، وتخرج فيها أعلام وفقهاء وأدباء وشعراء، بلغ إشعاعهم أقاصي الدنيا، عبر ما نشروه من علوم وفقه وأدب.
وفي هذه المدينة يرقد الكثير من الأعلام والشعراء من إفريقيا والأندلس والجزيرة العربية. فهنا عاش ابن رشيق القيرواني، وابن شرف، والإمام سحنون، والحصري.
وتستمد المدينة عراقتها أيضا من تاريخها، الذي شهد الكثير من الفتوحات، فمن القيروان قاد طارق بن زياد جيوشه لفتح إسبانيا، ومن القيروان انتشر الإسلام والحضارة الإسلامية في أكثر مناطق إفريقيا. أما جامع القيروان الكبير أشهر معالم المدينة فشيد عام 670 هجرية على يد الفاتح عقبة بن نافع، جاعلا من القيروان عاصمة إفريقيا العربية الإسلامية، ومدينة للعلم والفقه والأدب. واكتسب هذا الجامع شهرته كمنارة علم وثقافة، استطاعت أن تستقطب عديد العلماء والمفكرين، الذين جعلوا منها جامعة، بلغ إشعاعها أقصى العالم الإسلامي. وأصبحت إلى جانب جامع الزيتونة في تونس، والقرويين في المغرب، والأزهر في مصر، أحد أهم المنارات في بلاد الإسلام. وشهد الجامع عمليات تجميل وتحصين على امتداد تاريخه، وأصبح بذلك معلما متميزا.
وداخل هذا المعلم رباعي الأضلع تنفتح أمام الزائر العديد من البوابات، أجملها الباب الشرقي المعروف باسم باب “للّة ريحانة”، والباب الغربي وهو مبلط بالمرمر الأبيض، ويتوسطه حوض لتجميع مياه الأمطار، بغرض استعمالها لوضوء المصلين. كما توجد ثلاث ساعات شمسية تساعد على تحديد أوقات الصلاة.
وتفضي أبواب عديدة وواسعة إلى قاعة الصلاة، المقامة على أعمدة من الرخام الوردي والأسود. وتخضع تصاميم المسجد إلى مخطط دقيق، يمثل فيه الرقم 8 القاعدة الأساسية لعملية إعداد القاعة. بينما تدلت من الجناح الرئيسي تشكيلات من الثريات من البلور الصافي والكريستال، تنير المعبر المؤدي إلى المحراب، الذي زين ب162 قطعة خزف مربعة ذات رسوم وأشكال هندسية، وبجانب المحراب يوجد منبر، وهو قطعة فريدة من نوعها، صنعت كليا من خشب السنديان، المجلوب من بلاد ما بين النهرين. ويملأ زائر مسجد عقبة بن نافع إحساس غريب بالطمأنينة والسكينة والهدوء، يستمد فيه نفسا طويلا من عبق التاريخ ومن حرارة الإيمان. وبعيدا عن رائحة التاريخ والحضارة، التي تتأكد من خلال المدينة العتيقة، والأسوار التي رممت بإتقان، ومن خلال العدد الكبير من المساجد والأضرحة وغيرها من المعالم، تتميز القيروان إلى جانب ذلك بأنها مدينة فنون وصناعة تقليدية، حذقها السكان جيدا، وحافظوا على طابعها المميز، بما فيه من طرافة وأصالة. وأول غرائب هذه المدينة “السجاد القيرواني”، الذي طبقت شهرته أرجاء العالم. ويعتبر إلى جانب السجاد الإيراني من أجود أنواع السجاد وأكثرها التصاقا بالفن والنقش الإسلامي. وتنتشر محلات “السجاد” في مختلف أرجاء القيروان، التي يقبل التجار التونسيون من جهات عديدة على سجاجيدها المرصعة بكل الألوان. ومما اشتهرت به المدينة أيضا نوع من الحلويات، لا يفهم سرّ نكهته وحلاوته المميزة إلا أهالي القيروان. هذا النوع من الحلويات هو “المقروض”، ويكثر تداوله في رمضان. وليس لأي زائر للمدينة أن يصرف نظرا عن المقروض، وإلا بقي في نفسه شيء من حرما
المصدر
و قال الحصري يبكي القيروان بعد تخريبها على يد الهلاليين
أترى اللّيالي بعدما صَنَعَتْ بِنا **** تَقْضِي لـنا بتواصلٍ وتدَانِ؟
وتعيدُ أرض َ القيروانِ كعَهدهِا **** فيما مضى منْ سالفِ الأزمانِ
أمْسَتْ وقد لَعِبَ الزّمانُ بأهلِها **** وتقطعْت ﺒهم عُرى الأقرانِ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق